.
إذا دقّقنا فإنّ هناك، رغم بعض الفارق سطحًا، وحدة هندسة ومنهج بين التصوّف والعرفان بل إنّني أكاد لا أرى فرقًا سوى في العناوين. وهذه الوحدة هي التي تجعل منكري العرفان من الشيعة يعتبرونه دخيلاً ومتشبّهًا بالتصوّف ويجعلُ منكري التصوّف من السنّة يعتبرونه عرفانًا يتستّر ويعتمدُ التقيّة. وعندما تُجمعُ المدرستان فإنّ التهمة المعمّمة هي الباطنية. والباطنية مفهوم يحتاج منّا تفكيرًا حيويًّا اليوم ويحتاج حفرًا متأنّيًا فلا أعتقد أنّ مسألة الباطن مقابل الظاهر من التّرف النظري في المطلق كما أقدّر أنّنا بزمن هيمنة الصّور والمظاهر نحتاج إلى الباطن لنمنع الدّجل.
نحن بزمن كمّي عددي ونحن بزمن أرقام ونحتاج الحروف الفاتحة على المعنى كما نحتاج المدد وهنا تحديدًا نحتاج العرفان والتصوّف. نحتاجهما، لا عناوينًا فالغاية منهما تحريرنا من العناوين وإنّما نحتاج المنهج منهما وتمرين بناء الإنسان. نتشبّث كثيرًا بالعناوين ولكن وبحسابات المعنى فإنّ الإنسان بين فجور وتقوى أو هو بين سلبية وإيجابية أو أرضية ودنوّ وعُلويّة وسمُوّ.
لا أنكر أنّ الدين، كما المذهب، كما جملة المعارف المتّصلة بالدين والمذهب، يوجّهون نحو العلوّ والسموّ والترقّي ولكن هل يكون الأتباع ضرورة في هذا الرّسم وهل يبلُغون حيث ننتظر أن يكون بلوغهم.
علّمتني التجربة أنّ العُلويّة والأرضية مُمكنان إنسانيّان مُخترقان لكلّ ما نصطلحُ عليه من عناوين. وليس القصد من هذا الحديث أن نزهدَ في العناوين وإنّما القصد أن نتذكّر ولا نغفل عن حقيقة ومُسلّمة أنّ عنواننا الديني أو المذهبي لا يستقيم إلاّ بقدر ما نبلغُ القصد منه وهذا القصد هو، تحديدًا، العُلويّة.
وعندما أُستدرجُ إلى جدال السنّة والشيعة، أيّهما حقّ وأيّهما باطل فإنّني أرفضُ الخوض وأقارب الأمر من زاوية أخرى فصالح السنّة خير من عامّة الشيعة وصالح الشيعة خير من عامّة السنّة.
الصّلاح برهان ومصداق لا تقدّر قيمته ولا يضاهيه جدلُ أو تصنيف أو علم كلام. والصالحون لا يختلفون وإنّما يشيع الاختلاف بين من حُرموا أفق الصّلاح وغرّهم الانتماء للدّين والمذهب ونسوا أنفسهم التي هي مناط التكليف. الحُفر لا تلتقي ولكن قمم الجبال تلتقي.
وليس بوسعنا اليوم، والفتن تستثمر في تعدّدنا المذهبي، الإفلات من المكائد الخبيثة إلاّ بشيء من التعالي والتفكير في بُعدِ العلوّ وعوض الخوض في قول هذا وذاك يكون الاتّفاق على أنّ المقياس إنّما هو فعل هذا وذاك وخيريّة هذا وذاك. وهذا هو، بشكل مقتضب وملخّص، شغل أساتذة العرفان كما شيوخ التصوّف. هم يدرّبون على الصّلاح، الصّلاح الذاتي والنفسي الباطني، بابًا لصلاح جمعي ومُجتمعي.
لا يكمن دورهم الأساس في مراكمة علوم نظرية ولا في الحشو بالمعارف وإبراز الخلافات والاختلافات فقليل يتجلّى خير من كثير يتبخّر. وليست العبرة وكفى أن يتنزّل القرآن ولكن العبرة أن يمشي القرآن على الأرض وهو إن مشى لا يمشي إلا تجلّيًا عبر الإنسان وبه. يكون قُدوة ويتعلّم بمشيه الماشون ولقد كان صلّى الله عليه وسلّم قرآنا يمشي على الأرض ولو بقي ذلك الماشي بيننا لزهدنا في كثير من الكلام. وعندما لا يكون المشي، بمعنى السّلوك، يكثُر الكلام ولا يلدُ الكلام إلاّ كلامًا. لذلك نسمّي العرفان كما التصوّف طريقًا وسلوكًا وتجربةً ومخاضًا وذوقًا أي أنّ الكلامي اللساني لا يزن كثيرًا وإنّما الذي يزن ويرجح إنّما هو الامتحان الممحّص أو هو البرهان.
ومفيد أن نذكُر هذا، اليومَ، ونحن نُبتلى بموجة تديّن وتمذهُب مدمّرة. بعض شبابنا يصبحُ شيخًا يُفتي في الحلال والحرام ويفصّل في العقائد ويقضي بإيمان زيد وكُفر عمرو ويُدخل إلى الجنّة ويدخلُ إلى النّار بعد شهر من الصّلاة وكلّ رأسماله أن تنبت لوجهه شعرات. يعتقد أنّه باستعراض نصوص هذا وذاك يبلغُ الكمال. لا يسألُ عن نفسه إن كان بِها فجور ويرى الفجور في كلّ مكان.
وصلنا إلى هذا لأنّنا بمكر تزول منه الجبال ولكنّنا بلغنا هذه الحافّة لأنّنا همّشنا البعد التربوي التزكوي لصالح أكداس من المعارف ولم يكن من هذه المعارف الشيء الكثير، لمّا صنع صلّى الله عليه وسلّم ثُلّة خارقة عبقريّة مُعجزة. كان مددًا صُنِع بقلّة ما لا تقدر عليه كلّ الكثرة. وكانت بركة أُنجز بها ما تعجزُ عنه كلّ الحركة. وكانت رحمة أسكِنت قلوبًا انجذبت إليها جموع. وكانت عينًا اتّسعت لتحيط بكلّ المدى.
والصوفية كما العرفاء يفهمون ويعلمون أنّ خلاصهم وتوفيقهم بذلك المدد وبتلك البركة والرّحمة ولا يعوّلون كثيرًا على أنّهم مُسلمون فذلك لوحده لا يقدر على الهوى والنّفس ولا يضمن حصنًا من الشيطان ولا ثباتًا عند فتنة الدنيا وليس سهلاً بلوغ يقين يُنجي وإذا كان فموعد ذلك اليقين هو الموت.
تنتج عن هذه الأخلاقية أمور كثيرة ليس أقلّها أن يتواضع الإنسان فلا يطغى على الخلق بدينه فقد يسقط هو في الامتحان وينجح الآخرون. هناك فرق شاسع بين تديّن منفتح على رحمة الله يطلب منه العون والثبات والتوفيق وبين تديّن منغلق دائري لا ينفعُ صاحبه ويضرّ بالآخرين.
.
القلم الحرّ الهذيلي منصر
.
No Comments Yet!
You can be first to leave a comment